ماذا لو كان مفتاح السعادة الحقيقيّ عيش الحاضر؟ يمثّل الحاضر الفترة الواقعة بين الماضي والمستقبل، أي اللحظة الراهنة، التي يضمن عيشها، بحسب الفلاسفة، التمتع بحياة مُرْضِية تتعارض مع «العيش في الماضي» أو «القلق من المستقبل».
يشكّك بعض الفلاسفة في إمكان عيش الحاضر فعليّاً، لأنّ اللحظة الراهنة تختفي. في هذا المجال، يؤكّد الفيلسوف الألماني هيغل في «علم ظواهر الروح» ما معناه أنّ من يريد عيش الحاضر سيواجه خيبة الأمل باستمرار. هنا تُطرَح المشكلة التالية: الماضي ولّى، لذا لا يسعنا إلا أن نندم عليه لأننا عاجزون عن عيشه مجدداً. وبما أنّ المستقبل لم يأتِ بعد، لا يمكننا عيشه لأنّه لم يحلّ بعد.
ذكر بعض الفلاسفة أن العاملين الوحيدين اللذين نتلقّاهما من الحياة هما الجسد والحاضر، ورفضهما يعني رفض العيش. تتمثّل الزمنيّة بالنسبة إلينا بإمكان رؤية ما سيأتي: إذا كان ذلك صحيحاً، ستؤدي هذه القاعدة إلى اختفاء ما تهبه اللحظة الراهنة.
وتمثّل حياتنا الوجود، الرغبة، السلطة على الغير، والانفتاح على المجهول، أي كلّ ما لم يحصل بعد. في ظل هذه الشروط، يصبح عيش اللحظة بمثابة تنازل عن الرغبات الخاصّة، أي اختفاء الوعي والغرق في لاوعي يسعى إلى إرضاء الحاجات البدائية. أي التوقف عن المضي لتحقيق الرغبات الخاصة، والنجاح، وعن السعادة التي تدلّ على النجاح.
معان مختلفة
من الفلسفة اليونانيّة وصولاً إلى البوذيّة، مروراً باكتشافات علم النفس الإيجابيّة والعلاجات المعرفيّة، يشكّل «عيش الحاضر» حلّ المشاكل كافة. لكنّ هذه العبارة اتّخذت معانٍ مختلفة على مرّ التاريخ.
كثرت القصائد التي تصف هذا المفهوم وتدعو إلى استغلال الحاضر، والابتعاد قدر الإمكان عن التفكير بالغد، بل قطف ورد الحياة منذ اليوم. في السياق نفسه، كان الفلاسفة يدعون الإنسان إلى العيش في الحاضر، والتصدّي لأيّ مشكلة في الحياة، وإيجاد مصدر الخلود في كلّ لحظة.
كذلك نجد في مؤلفات الإمام ابن القيّم الفكرة التالية: «تقع حياتك الحاضرة بين الماضي والمستقبل. إذا أهدرت اللحظة الحاضرة، تكون أهدرت فرصة أن تكون من بين المحظوظين وممّن سينالون الخلاص».
نتطلّع جميعاً إلى المستقبل غالباً: نخطّط لنهاية الأسبوع المقبل، ننظّم عشاء قريباً، نترقّب إنهاء مشروع عمل... أو نعيد إحياء الماضي: طوال اليوم، نتكلّم مراراً وتكراراً عن خلاف نشب مساء الأمس. صحيح أننا لا نستطيع التحكّم بأيّ من هذه الأحداث، لكن ذلك لا يعني تجاهل التاريخ. من الطبيعي إذاً التحضير للمستقبل في الزمن الحاضر لأنّ سرّ النجاح يكمن في استباق ما سيحصل.
منذ السبعينات
تعني عبارة «عيش الحاضر» «عيش كلّ يوم بيومه» بدرجة معيّنة من التهاون، لكن مع تطبيق مبدأ «التصرّف فوراً». يرتبط هذا المفهوم بالمتمرّدين على المجتمع الذين يقدّسون المتعة في الحياة ويرفضون الممنوعات والضغوط، ولا يقلقون من المستقبل.
في الواقع، تُفسر هذه العبارة غالباً على أنها العيش في الحاضر بخمول لا بنشاط، والتهرّب من أيّ مشروع مستقبليّ. ذلك كله ليس صحيحاً. عيش الحاضر يعني الاندماج في كلّ لحظة، من دون التهرّب منها، أو من الواقع، من خلال التجاوب بشغف كبير مع كلّ موقف أو تجربة نمر بها. أمّا بالنسبة إلى المشاكل، المهمّ أن ندرك أن هذه «النار» لا ماضٍ لها ولا مستقبل.
قوة اللحظة
إيكهارت تولي، كاتب كندي انكليزي من أصل ألماني يولي الاهتمام الأكبر إلى القيم الروحية. من كتبه Pouvoir du moment presént الصادر عام 2000.
لاقى الكتاب نجاحاً عالمياً كبيراً، وسرعان ما حُوّل إلى بطاقات تعليميّة، وتمارين عمليّة، وفيديوهات. ثم أدّى إلى إنشاء مجموعة لقاءات مفتوحة لتطوير الاهتمام بالحياة اليوميّة.
ترتكز اقتراحات تولي حول تمارين عمليّة في التأمل لتطوير عمليّة إيقاظ الوعي الذاتي، وحاسّة السمع، والاهتمام الجسديّ.
تهدف التمارين إلى إسكات «تفكيرنا البسيط» لبضع لحظات، للإحساس تدريجاً بوجود شكل من الوعي الذاتي العميق والحسّاس. كذلك تهدف إلى التخلّص من الخلافات أو صراعات الوجود التي نعيشها يوميّاً كي نبني علاقة سليمة مع أنفسنا.
يوصي تولي بتفادي التفكير في ما سيأتي، والالتفات إلى هذه اللحظة تحديداً. لا يجب أن نبذل طاقة هائلة في سبيل الوصول إلى المثاليّة. لنتوقّف عن ذلك ونسترخِ كليّاً. لنكرّم اللحظة الراهنة.
بناء المستقبل
يبدو أنّ قدرتنا على عيش الحاضر تتّخذ منحىً جديداً. إذ يطغى الاهتمام بالمستقبل على اللحظة الراهنة. لقد أدركنا أن موارد كوكبنا محدودة، وأنّ صحّتنا ترتكز على الوقاية الطويلة الأمد. لذا نقوم بخيارات واعية في الحاضر: ركوب الدراجة الهوائية، تناول طعام عضوي، تفادي ركوب الطائرة، للتحضير للمستقبل بشكل أفضل.
كذلك نشعر اليوم بسرعة مرور الوقت أكثر من أي وقت مضى، إذ أصبحت كلّ ثانية قيّمة جداً. يعمل بعض الآلات اليوم بوتيرة أسرع من الخلايا العصبيّة في جسمنا إضافة إلى وسائل الاتصالات الجديدة كالهاتف، الحاسوب، والمحمول، التي تخوّلنا التواجد في أي مكان. لقد بات العمل لإثبات ذاتنا حالة طارئة نسعى إلى تحقيقها.
يكمن التحدّي الحقيقيّ في الاهتمام بالذات والاحتكاك بالواقع لتفادي الانخراط في حياة لا معنى لها. قد يبدو الأمر سهلاً، لكن لا يمكن تحقيق ذلك إلا عبر الترفّع عن العالم.
وفقاً لتولي، لا يعني الترفّع عن العالم الانسحاب منه، والتوقف عن التفاعل معه أو إقامة العلاقات مع الغير. بل يعني التحرك والتفاعل من دون البحث عن الذات، أي بعيداً عن السعي إلى تحسين الصورة التي رسمناها عن أنفسنا. ما يعني عدم الحاجة إلى المستقبل لتحقيق الذات أو تحديد هويّتنا.
نعم، نحبّ الرجوع إلى الماضي أحياناً، لا سيّما إذا شهد عدداً من الأحداث المُرْضِية. لكن هل من المنطقيّ أن نفعل ذلك، علماً أنّ أمراً مماثلاً قد يولّد في أحسن الحالات كسلاً خدّاعاً؟
حضّروا المشاريع، وانتظروا المستقبل. لا شك في أنّ هذه الطريقة في رؤية الأمور أكثر حيويّة.