اللهم لك أذل
وعليك أدُل
وإيَّاك أُجِل
وإليك سأنتقل
فاقبل مني قليل العمل
وتجاوز عني كثير الزلل
فعليك أتوكل
ولكرمك آمل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي سبقت رحمتُهُ عذابَه ، ومغفرته عقابه ، خلق الخير ورغَّب فيه ، وحثَّ على المسابقة إليه والمنافسة عليه ، ورتَّب على فعله والقيام به أجره وثوابه ، والصلاة والسلام على رسول الله ، خير من تنافس في الخير ، وعُرف بالمعروف ، وعلى آله وأصحابه ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
منظر .. للتدبر !
* أرأيتَ لو أن جمعًا من الرجال الأشاوس جمعهم ميدان سباق ومضمار تنافس ، يتبارون فيه ؛ أيُّهم يفوز في السباق ويحوز على الجوائز ؟!
وللسباق بدايةٌ ونهاية ، فبدايته تحت أقدامهم وميدانه بين أيديهم ، ونهايته بعد أن تُطوى مراحله وتُقضى منازله ـ تبدو راياتها الخفاقة أمام أعينهم .
وبدأ السباق ، ليتنافس الرفاق ، فأسرعت الخطى ، وتقاربت الأكتاف ، وعلت الأنفاس ، وتضاعفت الهمم ، وتفجرت العزائم !
فإذا ما دبَّ التعب والنصب في أوصال أحدهم ، رفع البصر ثم نظر ، فإذا بالجوائز والحوافز تبدو بين يديه وأمام ناظريه ، تسرُّ الناظرين ! فهان عليه ما يلقى في سبيلها ، وأخرج ما في جعبته لتحصيلها ، وأفرغ ما في كنانته من طاقة وجهد ، وبذلٍ وكد ، وعملٍ وجد ، لينال الغنيمة الثمينة مع جموع الفائزين .
ومن تكنِ العلياءُ همةَ نفسهِ فكل الذي يلقاهُ فيها محببُ 1
وينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير عندما ترى ـ في مؤخرة السباق ـ جموع الكسالى يتحدثون ويتسامرون ، ويتبادلون أماني الفوز وأحلام الغنائم !
إنه مشهد مقارب لما يقع في الواقع من تنافس أهل الخير في الخير ، وتقاعس أهل البطالة والغفلة عن الميدان الذي خُلقوا من أجله ، فهو يمضي أمامهم وهم ما زالوا يراوحون في أماكنهم ، لا يشعرون أنهم مبعوثون لميقات يوم معلوم !
" سأل رجل بلالاً ـ رضي الله عنه : مَن سبقَ ؟
قال : سبق المقرَّبون . قال : إنما أسألك عن الخيل ؟ قال : وأنا أجيبك عن الخير " 2
وعند نهاية السباق ترى الحسرات على ما ضاع من الساعات ، والعبرات على ما فات من الأوقات ، ولكن ..فليطل ليل الندامى لمَّا ضيعوا زمن البذر وطال بهم الرقاد ، فجنوا الألم والندم في وقت الحصاد ، وفاز بالمعالي من كان يعمل لها ويسابق عليها ..
إذا المرءُ أعطى نفسهُ كل ما اشتهت ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي دعته إليه من حلاوة عاجلِ 3
* وعند خاتمة السباق تفرغ كل خيل أصيلة ما لديها فالنهاية دنت بين يديها ، وتبوء بالخيبة من تكبلت خطاها في خطاياها ..
فآهٍ .. ثمَّ آهٍ عليها !
" اجتهد أبو موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قبل موته اجتهاداً شديداً ، فقيل له : لو رفقتَ بنفسك بعض الرفق ؟
فقال : إن الخيل إذا أُرسلت فقاربت رأسَ مجراها ، أخرجت جميعَ ما عندها ؛ والذي بقي من أجلي أَقلُّ من ذلك !
فلم يزل على ذلك حتى مات ." 4
فيا أيها المسافر لليوم الآخر ! أنت في معركة ، فما دورك فيها ، وهل يرضيك أن تكون في مؤخرة الركب ويفوتك الصحب ؟!
" فالغنيمةُ تُقسَّمُ على كلِّ مَن حضرَ الوقعةَ ، فيعطَى منها الرجَّالةُ والأُجراءُ والغِلمانُ مع الأمراءِ والأبطالِ والشجعانِ والفرسانِ ، فما يطلُعُ فجرُ الأجرِ إلاَّ وقد حاز القومُ الغنيمةَ ، وفازوا بالفَخرِ ، وحمِدوا عند الصَّباح السُّرَى ، وما عند أهلِ الغفلَةِ والنومِ خبرٌ ممَّا جَرى " 5
حسرة السباق !
أخي الوفي !
لا يطل عليك زمن الغفلة فأنت في مهلة ، حتى لا تعض أصابع الندم ويطول بك الألم في يوم النُّقلة !
" قال خالد الوراق : كانت لي جارية شديدة الاجتهاد في العبادة والصلاة ، فدخلت عليها يوماً ، فأخبرتها برفق الله تعالى وأنَّه يقبل يسير العمل ، فبكت ، وقالت : إني لأؤمِّل من الله تعالى آمالاً لو حملتها الجبال لأشفقت من حملها ، وإني لأعلم أن في كرم الله مستغاثاً لكلِّ مذنب ، ولكن كيف لي بحسرة السباق ؟
قال خالد : وما حسرة السباق ؟
قالت : غداة الحشر إذا بُعثِر ما في القبور ، ورَكِبَ الأبرارُ نجائبَ الأعمال ، فاستبقوا إلى الصراط ، والله الذي لا إله غيره ، لا يسبق مقصِّرٌ مجتهداً أبداً ، أم كيف لي بموت الحزن والكمد إذا رأيتُ القوم يتراكضون وقد رُفعت أعلام المحسنين ، وجاز الصراطَ المشتاقون ، ووصل إلى الله المُحبُّون ، وخُلِّفتُ مع المسيئين المذنبين .. فبكت ، وقامت تصلي ..6
* فضع نفسك حيث تريد أن تراها يوم لقاء مولاها ، وارض لنفسك اليوم بما ترضى به لها غدًا ، فبين يديك يوم التغابن ، وستقف بقدميك على أرض الساهرة في يوم الحسرة ، فلا تكن من المفرطين حتى لا تكون في يوم الدين من المغبونين المتحسرين المتندمين .
فقد قال تعالى :" والسابقون . السابقون أولئك المقربون . في جنات النعيم } 7
فالسابقون هنا في الخيرات ، هم السابقون هناك إلى أعلى الدرجات في الجنات ، فأين تبتغي أن تضع قدمك ؟! وأين يكون منزلك ؟!
فلا تشتغل إلاَّ بما يكسب العلا ولا ترضَ للنفس النفيسة بالردى 8
نداء للسباق !
قال تعالى :{ ولكلٍّ وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير }9
* فهذا خطاب الكريم يناديك .. يأمرك .. ويهتف فيك ..
يحثك إلى المبادرة للخير ، والمسابقة إلى المعروف ، والمنافسة في الطاعة ، والمسارعة إلى العمل الصالح .